الخميس  02 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أندروميدا.. وإله الكرمل القويّ

فصول من "كتاب الزيارة" وقائع زيارتي الأولى لفلسطين المحتلة

2015-03-26 09:58:27 AM
أندروميدا.. وإله الكرمل القويّ
صورة ارشيفية


سلطان القيسي- شاعر وكاتب فلسطيني مقيم في الاردن
 
يافا لا تشبه النساء كما  قال عنها شعراء كثيرون، يافا لا تشبه المدن، يافا لا تشبه الأمهات، ولا النبيّات حتى. صرتُ أتذكر أبيات الشعر التي حفظتها عن يافا :
بيافا يوم حطَّ بها الركابُ
تمطّرَ عارضٌ ودجا سحابُ
فشلتَ أيها الجواهريّ، هزمتكَ يافا كما فعلت عكا بنابليون.
أذكر يوماً كنتُ بيافا .. أخبرنا أخبر عن يافا
لكنني لم أكن هنا من قبل، أو لم أكن من قبل،  لذلك ملامحي شاحبةٌ، ولا موسيقا في دمي تكفي للقفز فوق الموج، ولكتابة الشعر الزكيّ، لأنني لم أكن في يافا من قبل يبدو شعري كالأيتام، يعاني فقراً و فقداً دائماً، شعري الذي ما إن يرى كعكةً حتى تسيل دمعته.
 
على شاطئ يافا فرق الجاز تتناغم مع  نسيم البحر، انفتاح على العالم كله، لا أحد يفكر بشيء، الناس هنا على اختلاف مبادئهم و تطلعاتهم، يفقدون جوازات سفرهم ولهجاتهم و لغاتهم، وينسكبون في المشهد، ويصيرون كالموج عائلةً واحدةً، إلا المحتلين لأن يافا لا تقبل الاغتصاب، إنها تعطي كل شيء دون مقابل ولكن حين ترضى، المحتلون يمرون بجانبي ونتصادم أحياناً رغم ذلك هم ليسوا إلا فراغات، أصطدم بفراغات وأواصل المسير، هناك تعلمتُ جملة درويش من جديد: " وأنتِ بدايةُ عائلةِ الموج"، الموج عائلة .. يمسكون بإيدي بعضهم البعض و يمضون، جيئة وذهاباً، في يافا فقط سمعتُ الموجة الأب تنهر الموجة الإبن: انتبه وأنت تقطع الشارع المائي.
 
أطرف سؤال في التاريخ سألته لصديقي طارق، بعد أن تركتُ معطفي في سيارته، ونزلت إلى الغروب بكنزةٍ ناعمة: " الدنيا برد؟ " ،  سألته خوفاً من برد الليل، في اللحظة تلك لم أعد قادراً على أن أحس بأي شيء، لقد هاجمتني يافا بحب كبير و موسيقا عالية، أنا المفتون بالجاز منذ زمن، الرمل الرمادي، والبلدة القديمة التي تقف على التل، برج الساعة الذي يطل من " العجمي"، مسجد البحر، الكنيسة العظيمة التي تربض قربه، مدافع العثمانيين، صخورأندروميدا .. ابنة ملك يافا ..
 
في يافا لا يقوى الشاعر على الخوض في التاريخ و الاحتلال، هنا ينفلت الشاعر عشقاً، البحر  يحرض على الحبّ فتباركه المدينة الحلوة، يتجاهل الشاعر العمارات الزجاجية التي تقف وراءه في "الشيخ مونِّس" التي صار اسمها " تل أبيب"، والتي طالما  اعتقد الناس أن اسمها الأصلي " تل الربيع" لكن الحقيقة أن هذا الاسم ليس سوى ترجمة للاسم العبري، وأن هذه المدينة قامت على أنقاض قرية الشيخ مونِّس، كما امتدّت لتشمل منطقة المنشيّة على ساحل يافا المحتلة، مشينا  على الساحل شمالاً حتى بلغنا  تل أبيب سيراً على الأقدام، صعدنا الدرج جنوباً، وتجولنا بين البيوت العربية القديمة، التي أصبحت كافيهات و مطاعم، أمرٌ محزنٌ أن تمرَّ على بيتك فتجد مارّةً يحتسون القهوة فيه دونما إذن منك!

يافا إلهةٌ بسيطة و طيبة لكنها تعرف مفاتنها جيّداً، و تعرف كيف تدير إمكانياتها، لم أكن أعرف أنها على هذا النحو من الهدوء و الثورة معاً، ولم أكن أعرف أنها من هذا النوع ؛ كنت دائماً أفكر في النساء فأقول: هناك نساءٌ جميلات، ونساءٌ قبيحات، ثم أسترسل في التفكير عميقاً لأقول إن هناك نساءٌ ذكيات و نساءٌ غبيات، الذكيّة هي من تستطيع استثمار إمكانياتها في إغواء الجمال و استدراجه، و الغبية هي تلك التي تترك الماكياج أو تأخذه كله، فإما تبدو كصفيح معدني أو كورشة بناء، حتى وإن كانت جميلةً أصلاً. يافا جميلة .. وذكية .. إنها المدينة الأذكى على الساحل السّوري.
خارج المكان :

ظلّت سيارة صديقتي تمشي في اتزان واستقامة، ولكننا ندور و ندور، وهي تكيل الشتائم لجهاز الموبايل و أحد تطبيقات الخرائط و الطرق، ونحن نسعى إلى وسط مدينة" تل أبيب" التجاري، وتحت هذا الضغط، كنت أحاول إقناعها بتجاوز هذه المحطة إلى حيفا، معللاً ذلك بخوفي، خائف أن أُعجبَ بمدينةٍ ذات صبغة "إسرائيلية عدوانية"، خائف أن تدخل هذه المدينة تحت الجلد بما فيها بيتُ رئيس وزراء الاحتلال، خائف من اسمها الغريب على لغتي، خائف من أضوائها الكثيرة، ومن كل شيء فيها، في الحقيقة لم يرد الله لي أن ألجها، ففي آخر الأمر وجدنا أنفسنا خارج الطريق، لتسأل صديقتي أحد المارة، عن طريق تل أبيب- حيفا، فابتسم و أخبرها أننا في مدينة "لود"، " لود" يعني اللّد، تلك المدينة التي شعرت أنها واسعة ومفرغة من البنايات، ربما لأن المطار يسكنها، وربما لأنَّ مركزها بعيدٌ عن يافا، ليس هذا أمراً هاماً، المهم أن هذا الرجل كان "إسرائيلياً"، عرف بلادي و لم أعرفها، هنا بدأت مشاجراتي مع صديقتي، ربما لأنني لم أفهم بعدُ معنى التعايش مع العدو، وربما لأنني لن أفهمه قط. أنا أسميهم "إسرائيليين" لأنهم معترفون بهذا الكيان الغاصب الذي يسمي نفسه "دولة إسرائيل"، ولا أسميهم بذلك اعترافاً، ولا تنكرنا لحقنا كفلسطينيين بإقامة دولتنا على حدود الكنعانيين التاريخية، فهناك من يسميهم " يهود"، وهذا خطأ فهناك من اليهود المتدينين من يرفض هذه الدولة، منهم السمرة الفلسطينيين الذين يسكنون نابلس، ومنهم جماعات" ناتوري كارتا" الذين لم يدخلوا فلسطين كما يرفضون الدولة بحسب كتابهم السماوي. وهناك من يسميهم " صهاينة"، وهذا مقتل كبير في قضيتنا، فإن هيرتزل مؤسس "الحركة الصهيونية" التي دعت فيما بعد لإقامة هذه الدولة على أراضي فلسطين، اشتق الاسم من " جبل صهيون" الذي يربضُ في القدس، ليوائم بين عصاباته وأرضنا. أنا أسميهم " إسرائيليين" لذلك .
 
ظللنا نسير على وتيرة واحدة، لا مرتفعات..لا منخفضات، فجأةً ارتقينا حيّاً سكنياً يتمدد على جبل، سألتها: أين نحنُ الآن؟ أجابت: جبل الكرمل ..لم أدرِ كيف فعلت ذلك، أمسكت يدها و أمرتها أن توقف السيارة فوراً، سألتها: هؤلاء الناس يسكنون الكرمل؟ أجابت: نعم. بدأتُ أسبُّهم .. وأسبّها .. وأسبُّ الاحتلال، وأسبني ، أبكي ..أضرب بيدي كل شيء .. كيف يجرؤ أحدهم أن يسكنَ على كتف الكرمل؟!!
 
كنتُ أخال الكرملَ إلهاً أسطورياً قوياً، لا يسمح لأحد أن يركب على ظهره!
 
ظللنا نرتقي حتى وصلنا  حديقة البهائيين، ونزلنا الشارع الذي يصل بين بابها و البحر، و الذي يسميه الاحتلال" جادة بنغوريون"، جلسنا في مطعم عربي، جاءت نادلة "إسرائيلية" قدمت القائمة، ووقفت بابتسامة تنتظر أن أسدي لها طلبي، لكنني رفضتُ التحدث إليها، أشرت لصديقتي أن كلميها أو اصرفيها، فضحكت وقالت: اطلب، إنهم يتحدثون الإنجليزية، قلت لها إن الأمر لا علاقة له باللغة الأمر متعلّق بالقلوب، لن أكلِّمها. ضحكت صديقتي وسألتني بلهجتها العكّاوية: "ليش يعني؟ هو إنتِ محاربهن؟"، ضربت بقبضتي على الطاولة: طبعا "محاربهن"، طالما هم على أرضي، وتحت هذا العلم الأزرق، فأنا "محاربهن". انتبهت صديقتي للأمر واتشحت باحمرار الخدين، وحاولت أن تقنعني أنها لم تعنِ ما قالت، وأنها تفهمني جيداً، بل وتتخندق معي في خندقنا الفلسطيني، رغم اختلاف جوازات سفرنا، فنحن أبناء معاناة واحدة. لكنني فهمت للمرة الأولى معنى التعايش، فلقد شكرت صديقتي "الإسرائيليَّ" الذي دلنا على الطريق، وشكرت هذه البنتَ واستغربتْ عدائي لها، ثم عادت لتصرفها وتطلب نادلةً عربية، إن أهلنا داخل الخط الأخضر ينسون الأمور البسيطة ولكن لا ينسون العميق منها، فلقد اتصلت بي صديقتي نفسها عندما عدتُ إلى عمان، وسط موجة عارمة من الضحك، لتخبرني بأن ابنها ذا السنوات الخمس، حين طلبت منه المعلمة أن يذكر اسم حيوان يبدأ بحرف النون، أجابها: "نتنياهو".
 
كما أن الاحتلال يتدخل في كل شيء، فكما خرّب رحلتنا كثلاثة أصدقاء و ثلاثة شعراء، خرب أشياء كثيرة، فلقد فرض مثلاً قانوناً يمنع أهالي الضفة من دخول القدس بطبيعة الحال، ويسقط "هوية القدس" عن حامليها إذا ثبتت إقامتهم في أراضي الضفة الغربية، بهذا منع أهم أشكال التواصل الاجتماعي بين الشطرين، فلقد ذكر لي طارق البكري أيضاً أن الناس في القدس يفضّلون إرسال بناتهم إلى جامعات الأردن، و يخافون إرسالهن إلى جامعات الضفة، خوفاً من أن تقع البنت في حبّ شاب فلسطينيٍّ من سكان الضفة، فإذا  تقدم هذا الشاب للزواج منها ستقع البنتُ وأهلها في خيارين مرّين: إما أن يرفضوا الزواج، أو أن تسقط عنها الهوية المقدسية لتعيش مع زوجها في الضفة، وبذلك يكون الخيار إما الحبيب أو القدس.. الفلسطينيون معجنون بالعشق، ولكن القدس سيدة العشاق كلهم!