الأحد  19 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كذبة النظرة الأولى.. بقلم: أنور الخطيب

2015-05-19 01:44:28 PM
كذبة النظرة الأولى.. بقلم: أنور الخطيب
صورة ارشيفية
 هنا نلتقي 

 تحدث (النظرة الأولى) في الحب، فتلتقي هالة الرجل بالمرأة، أو تتلاقح طاقتهما، أو تتجاذب عناصر الكيمياء العاطفية بينهما، فيتحقق الميل وتشتعل الرغبة ويبدأ المشوار، لكنه قد ينتهي بكارثة أو هزيمة أو صدمة بعد أسبوع أو شهر أو سنة، ويفسر أحدهما الفشل بتسيّد الرغبة على المشهد، أو الاندفاع غير المدروس، أو بالحاجة لمن يسد ثقوب القلب، وقد تنجح هذه (النظرة الأولى) فتؤسس لعلاقة طويلة ناجحة وقوية لسنوات طويلة قد تطول حتى نهاية العمر.

لكن (النظرة الأولى) للمبدع لا تنجح دائما، والانطباع الأول يجب ألا يكون الانطباع الأخير، فمن يبدأ متلعثما قد يتعلم فن الكلام ويتفوق فيه، لكن من رسّخ مفهوم (الانطباع الأول) لديه يجد صعوبة في تقبّل هذا المبدع في أعماله الجديدة، فيشيح بوجهه عنها في موقف ينم عن جهل مطبق، ومصادرة لنظرية التطور والارتقاء.

وقد يحدث العكس مع مبدع آخر، انطلق متفوقاً في رواية أو ديوان، ونال جوائز كبيرة، لكنه يتلعثم في أعمال تالية، كما حدث مع كثيرين من أصحاب جائزة البوكر للرواية، لكن (الانطباع الأول) قد ترسّخ لدى القراء أو حتى النقاد، فيستقبلون جديده بتلك الروح التي استقبلوا فيها قديمه المتفوق، وإذا ما تجرأ ناقد أو قارئ جيد على إطلاق حكم صريح، وأعلن أن الكاتب صاحب الجائزة الكبرى أخفق في المحافظة على تفوقه، فإنه أي (القارئ أو الناقد) الشجاع، سيجد من يتهمه بالحسد والغيرة وبعدائه للنجاح.

وبناء على ذلك، ظل النقاد بعيدين عن اسماء إبداعية حقّقت تفوقاً رائعا في مجالات الرواية والشعر وأشكال التعبير كافة، وظلوا قريبين جداً ومبهورين بأسماء أخفقت بعد نجاح، رافضين الاقتناع بأن الصغير لا بد وأن يكبر، والكبير قد يفلس ويعيش على ماضيه المزدهر.

وهذه (النظرة الأولى) أو (الانطباع الأول) ألحقت ضرراً بالإبداع الفلسطيني، شعراً وروايةً ومسرحاً، حتى طالت الفن التشكيلي والغناء ومجالات الإبداع جميعها. فالانطباع الأول تجاه المبدع الفلسطيني ينحصر في أمرين: أولا، أنه يكتب عن فلسطين، ولهذا فإنه لن يأت بجديد، والأمر الثاني، أنه يلجأ إلى المباشرة والصراخ والأدوات التقليدية في التعبير. ويطمئن النقاد وهم يكتبون عن عمل روائي أو شاعري لمبدع فلسطيني، فيعتبرون المرأة في الرواية هي فلسطين، والوردة في القصيدة هي فلسطين، وعطر المكان هو شوق لعطر فلسطين، وأي حنين لا بد وأن يكون لفلسطين، وكل رمز جمالي يستخدمه هو فلسطين، وبالتالي فإنهم حبسوا المبدع في قوالب تقليدية شكلا ومضموناً، وحرموه من إنسانيته، وحقه في العشق المطلق، والحنين المطلق، بل حرموه من محاكاة الوجود والتحاور مع أسئلته ككائن إبداعي قلق، وبالتالي، يوضع على رف المهملات والمؤجلات، لسبب بسيط، أن فلسطين لم تعد من الأولويات، وقضيتها استُبدلت أو زوحمت بقضايا أخرى، حتى اللاجئ لم يعد فلسطينياً، وحق العودة إلى الديار لم تعد حقاً فلسطينياً.

هذه آفة التعاطي مع الإبداع في وطننا العربي، وآفة النقد الذي يمكن توصيفه بتفاؤل كبير بشبه الغائب، ضمن كثير من الوظائف التي لم تعد حاضرة كما يجب.

النظرة الأولى خدعة القلب المتقلب في الحب، والانطباع الأول هو الزاوية التي يجلس فيها الخائفون من هدير البحر، فالموجة القادمة لا تشبه أختها وإن وصلت إلى الشاطئ، والنبض الثاني لا يشبه النبض الأول وإن صدر من القلب نفسه.

لهؤلاء الذين أوقفوا معارفهم نقول: اقفلوا ألبوم الصور الملتقطة قبل أربعين عاما، وانفضوا عنكم الأبوة الزائفة، فصور الأطفال في الألبوم لم تعد تشبه أصحابها