الأربعاء  30 نيسان 2025
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كيف خلقت وحدة استخباراتية سرية روسية رعبا داخل أوروبا؟

2025-04-13 12:47:22 PM
كيف خلقت وحدة استخباراتية سرية روسية رعبا داخل أوروبا؟
السفارة الروسية في لندن

الحدث العربي الدولي

وقع انفجار غير معتاد ومفاجئ في محطة شحن بمطار لايبزيغ في ألمانيا قبل نحو عام، ما أثار سلسلة من إشارات التحذير في أوروبا. كما أثارت الحيرة حادثة سد أنابيب العادم في 270 سيارة بألمانيا باستخدام رغوة بناء في فبراير، بالإضافة إلى الكشف عن شبكة تجسس روسية أدينت في بريطانيا. هذه الحوادث، إلى جانب سلسلة من الحوادث البحرية الغامضة، وهجمات إلكترونية، وتكرار غير معقول لحوادث متفرقة، دفعت جهات في الغرب إلى اتهام روسيا بشن حملة تخريبية على امتداد القارة الأوروبية.

وبحسب بيانات جمعتها وكالة "أسوشيتد برس"، منذ اجتياح روسيا لأوكرانيا قبل ثلاث سنوات، تم توثيق 59 حادثة اتهمت فيها حكومات أوروبية، أو مدّعون، أو أجهزة استخبارات، أو جهات غربية أخرى، موسكو أو مجموعات تابعة لها أو حتى حليفتها بيلاروس، بالضلوع في هجمات إلكترونية، نشر دعاية، التخطيط لاغتيالات، تخريب، إشعال حرائق، تخريب مرافق، أو تجسس. يرى مسؤولون في الغرب أن هذه الهجمات جزء من استراتيجية ممنهجة أقرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهدف زرع الانقسام داخل المجتمعات الأوروبية وتقويض الدعم الغربي لأوكرانيا. رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية، ريتشارد مور، وصف هذه الأنشطة في نوفمبر الماضي بأنها "حملة تخريب متهورة على نطاق مروع".

وفي صيف 2024، وخلال واحدة من ذُرى ما بات يُعرف بـ"الحرب الشفافة" بين روسيا والغرب، وجّه الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تهديداً مباشراً لبوتين، قائلاً إن الولايات المتحدة ستعد روسيا مسؤولة عن أي أعمال إرهابية، ما أثار خشية أوروبية من أن هذه المواجهة قد تشعل حرباً واسعة.

من أكبر الضربات التي تلقاها بوتين في حربه على أوكرانيا انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي خلال العامين الأخيرين. بوتين شنّ الحرب في فبراير 2022 وهو يعتقد أن الحلف الغربي في حالة ضعف، لكن الحرب عززت من تماسك الناتو ومكّنته من حشد موارد وتحالفات جديدة. وكانت فنلندا، تحديداً، قد برزت كلاعب رئيسي في ما أصبح ساحة مواجهة جديدة بين روسيا والغرب: بحر البلطيق.

تحوّل بحر البلطيق خلال العام الماضي إلى ساحة صراع حقيقية. فقد سُجل عدد غير مسبوق من أعمال تخريب طالت البنية التحتية تحت سطح البحر، لا سيما الكابلات الكهربائية والاتصالات التي تربط دول البلطيق وتعد حيوية للخدمات المدنية فيها. في نهاية عام 2024، وبينما كان الفنلنديون يحتفلون بعيد الميلاد، داهمت وحدة خاصة من خفر السواحل الفنلندي ناقلة نفط تُدعى Eagle S وسط البحر، واقتادتها إلى سواحل البلاد دون مقاومة تُذكر لفتح تحقيق.

سبق تلك العملية حوادث تخريب خطيرة أخرى طالت كابلات تحت الماء، تم على إثرها توقيف سفن تجارية وسط البحر، واتضح لاحقاً أن قاسماً مشتركاً بينها هو انطلاقها من موانئ روسية قريبة من سانت بطرسبرغ. بعض تلك السفن يندرج ضمن ما يُعرف بـ"الأسطول الشبحي" الروسي، وهو مجموعة من ناقلات نفط قديمة ومتهالكة تُدار من قبل روسيا عبر جهات ثالثة، وتُستخدم لتصدير النفط رغم العقوبات.

وتشير التقديرات إلى أن هذا الأسطول مسؤول عن تصدير نحو 60–70% من نفط روسيا، ما يجعل من إنكاره أمراً صعباً. يُستخدم هذا الأسطول كوسيلة للالتفاف على العقوبات الغربية، ويضخ أموالاً طائلة في ميزانية الحرب الروسية. ورغم نفي موسكو علاقتها بحوادث التخريب، سواء عبر قنوات رسمية أو غير رسمية، لا تزال الاتهامات تتوالى من مسؤولين رفيعي المستوى في أوروبا.

التحقيقات لم تُثبت رسمياً حتى الآن أن روسيا تقف وراء تلك الأعمال، وتستند موسكو في دفاعها إلى سابقة انفجار أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" في سبتمبر 2022، الذي وقع أيضاً في بحر البلطيق، وهز العالم حينها. رغم أن أصابع الاتهام وُجهت حينها إلى روسيا، فإن الشكوك بدأت لاحقاً تتجه نحو أوكرانيا، بتعليمات يُعتقد أنها صدرت من أعلى المستويات في كييف.

الشكوك حول ضلوع روسيا في تلك الحوادث ما تزال قائمة، وإن كان البعض يرى أن موسكو لا مصلحة لها في تعريض أسطولها "الشبحي"، مصدر دخلها الرئيسي، لاهتمام دولي متزايد وسط تصعيد العقوبات. لكن خبراء بحريون يؤكدون أن تكرار هذه الحوادث في مساحة محددة وضمن فترة قصيرة هو أمر غير طبيعي، ما يعزز الشكوك حول وجود نوايا تخريبية منظمة، تهدف إلى إضعاف الدعم الأوروبي لأوكرانيا، دون ترك أدلة مباشرة يمكن أن تؤدي إلى مواجهة مفتوحة.

الغالبية العظمى من الحوادث البحرية في بحر البلطيق نجمت عن سحب غير مألوف لمراسي السفن لمسافات طويلة تحت سطح البحر، ما أدى إلى قطع أو تدمير كابلات حيوية. وقال وزير خارجية ليتوانيا السابق، غبريليوس لاندسبرغيس، إن "سحب مرساة لمسافة 150 كيلومتراً دون أن تعرف بذلك أمر غير ممكن"، مشيراً إلى أن السفينة تستهلك وقوداً أكثر وتتحرك ببطء، وبالتالي لا يمكن للطاقم ألا يلاحظ.

لاندسبرغيس، المعروف بلهجته الحادة تجاه موسكو، ليس الوحيد في ذلك، فقد أكد مسؤول سابق في وكالة السلامة البحرية الأوروبية، ماركو ميلي، أنه من الممكن تقبل حادثة واحدة كخطأ، "أما ثلاث حوادث أو أكثر؟ هذا مستحيل".

لكن تقارير استخباراتية غربية، منها تقرير مشترك نشرته "واشنطن بوست" في يناير، تؤكد أنه لم تُعثر على أدلة مباشرة تربط روسيا بهذه الأعمال، وأن كثيراً من هذه الحوادث قد تعود إلى أخطاء بشرية وفرق تشغيل غير مدرّبة تعمل على سفن قديمة وغير مهيأة. مع ذلك، يرى منتقدو روسيا أن هذه القراءة قد تكون ذريعة لتفادي مواجهة مباشرة.

الحوادث الغامضة في البلطيق دفعت الناتو إلى إنشاء قوة مهام خاصة، تضم سفناً حربية لمراقبة النشاط البحري ومنع عمليات تخريب في الوقت الفعلي، لكن رصد "الأسطول الشبحي" القديم والمموه لا يزال مهمة شبه مستحيلة.

تصاعد التوتر بين روسيا والغرب بلغ ذروته خلال العام الأخير، بعدما حذرت واشنطن من عبوات ناسفة روسية مخبأة داخل شحنات مرسلة إلى أميركا، خاصة في عبوات لأجهزة تدليك، بعد أن تمكّن الروس من رصد نظام الفحص في شحنات الطيران.

واعتبرت الولايات المتحدة هذه التحركات تهديداً مباشراً لأمنها القومي. على إثر ذلك، أمر بايدن مستشاره للأمن القومي، جيك سوليفان، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، بيل بيرنز، بإرسال رسائل شديدة اللهجة إلى موسكو، في محاولة لردعها عن تصعيد ما وُصف بـ"حرب الظلال".

ويُعتقد أن الرسائل وصلت إلى بوتين، بدليل توقف هذه الشحنات والحرائق المشبوهة في أوروبا، وإن كانت المخابرات الأميركية لم تؤكد ما إذا كان التراجع مؤقتاً أو دائماً.

الهجمات في البحر والجو ليست سوى جانب من حملة أوسع. فقد تم الكشف عن محاولة اغتيال استهدفت أرمن بفارغر، المدير التنفيذي لشركة "راينميتال" الألمانية، إحدى أكبر موردي الأسلحة لأوكرانيا. وتشير تقارير استخباراتية إلى أن هذه المحاولة كانت رسالة تهديد مباشرة من موسكو.

كما ارتبطت روسيا بسلسلة من حرائق وتخريبات في منشآت مختلفة بأوروبا، من بينها إحراق متجر "إيكيا" في فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا، والتي أعلنت النيابة العامة هناك أنها كانت عملية إرهابية نفذها مواطنان أوكرانيان جندهما الاستخبارات الروسية.

وفي 21 مارس، شهدت بريطانيا انقطاعاً كبيراً للكهرباء أدى إلى شل مطار هيثرو، أحد أكثر المطارات ازدحاماً في العالم. ورغم أن التحقيقات استبعدت بدرجة كبيرة عملاً تخريبياً أجنبياً، فإن وحدة مكافحة الإرهاب البريطانية أوكل إليها التحقيق.

وفي تطور آخر، كُشف مؤخراً عن شبكة تجسس بلغارية تعمل لصالح روسيا في بريطانيا، كانت تهدف إلى اغتيال الصحافي الاستقصائي خريستو غروزيف، الذي يثير قلقاً كبيراً في الأوساط الروسية.

وتشير تقارير صحفية إلى أن معظم هذه العمليات تُدار من قبل وحدة سرية تابعة للاستخبارات العسكرية الروسية تُدعى "قسم المهام الخاصة" (SSD)، أُسست عام 2023 بتعليمات مباشرة من بوتين لمواجهة ما تسميه موسكو "الغرب الجماعي". هذه الوحدة مسؤولة، حسب الغرب، عن عمليات اغتيال، اختراق مؤسسات غربية، وتجنيد عملاء أجانب، خاصة في ألمانيا، التي تعتبرها روسيا نقطة ضعف أوروبا بسبب اعتمادها الكبير سابقاً على الطاقة الروسية.

ويُقال إن الوحدة يقودها اثنان من كبار الضباط الروس: الجنرال أندريه أفرانيانوف، والجنرال إيفان كاسيانينكو، وهما وراء محاولات تفجير مستودعات أسلحة، متاجر، مقاهٍ ومراكز تجارية في أوكرانيا، بولندا ودول أخرى.

وفي ظل عودة دونالد ترامب المرتقبة إلى البيت الأبيض، تعيش أوروبا حالة قلق متصاعدة. فالرئيس الأميركي السابق لا يُخفي رغبته في إنهاء الحرب بشروط مريحة لبوتين، كما يعارض بشدة استمرار دعم أمن القارة. وهذا يعمّق المخاوف الأوروبية، خاصة في دولها الشرقية، من احتمال تركهم وحدهم في مواجهة خطر عسكري روسي قد يتحقق خلال السنوات المقبلة.