الثلاثاء  07 أيار 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قراءة في مجموعة ناجي الناجي العائد إلى الحياة

2016-08-05 03:07:34 PM
قراءة في مجموعة ناجي الناجي
العائد إلى الحياة
الإعلامي أحمد زكارنة

بقلم: أحمد زكارنة

في حضرةِ الباقي محمود درويشْ، نبدأُ هذه القراءةَ العجولةَ، باستذكارِ ما قالهُ في أحدِ نصوصِهِ السرديةِ التي جاءتْ في كتابِهِ "حيرةُ العائد" خاصةً ونحنُ في حضرةِ أحدِ العائدينَ إلى الحياةْ، إذْ تساءلَ درويشُ: "هل يمكنُنا أنْ نهبطَ، سالمين، من سماءِ الأسطورةِ إلى ما تيسرَ لنا من أرضِ الاسمِ والهوية، من أرضِ الواقعِ؟

 

انطلاقاً من هذا السؤالِ الإشكالي، وإذا ما اعتبرنا أنَّ كلَّ كتابةٍ هي بشكلٍ أو بأخرَ تعدُّ تجربةً مستقلةً بأدواتِها وأساليبِها، سنجدُ أن الأمرَ برمتِهِ لا يختلفُ نهائياً لدى ناجي وهو يرصدُ الواقعَ الاجتماعيَ والسياسيَ والثقافيَ في مجتمعِهِ بكلِ تفاصيلِهِ وتحولاتِهِ من وجهةِ نظرِهِ وربما أمنياتِهِ، ولكن بعينِ الراصدِ العليمِ خاصةً وأنهُ يعدُ أحدَ الأبناءِ الشرعيينَ للمنافي، فضلاً عن وجودِهِ في محيطِ العملِ السياسيِ.

 

سنجدُ في مجموعةِ ناجي "ترنيمةٌ إلى الضفةِ الأخرى" تلكَ المحاولةَ التي يتساءلُ عنها درويشْ، محاولةَ الهبوطِ الآمنِ، أو السليمْ، حاضرةً وبقوةٍ فقطْ لأنها محاولةُ هبوطٍ من سماءِ الأسطورةِ إلى أرضِ الفكرةِ الحلمْ، أو الحلمِ الفكرةِ، فلسطينْ، وهذا واضحٌ من الوهلةِ الأولى في إهداءِ هذه المجموعةْ، ذلك الإهداءُ الذي يحتملُ تأويلُهُ أن يكونَ للأمِ التي ربت، وللأمِ الفكرةْ أو بقولٍ آخرْ، الأرضْ، حيثُ يقولُ ناجي في إهدائِهِ لأرضِهِ فلسطينَ بقصدٍ أو دونَ قصدْ: "لأنَّ النفوسَ تسمو بامتدادِ الأفئدةِ.. والدُّورُ تُبنى بالوجدِ لا الهُتافْ.. والروحُ فينا تُسقى زيتاً وزعتراً، إلى أمي.

 

ولأن لكلِ نوعٍ من أنواعِ الكتابةِ تقنياتٍ وشروطاً، ولكلِ إبداعٍ خروجاً عن النصِ في أغلبِ الأوقاتْ، سنجدُ أن ناجي في مجموعتِهِ يحاولُ التحررَ من شرطيِّ الزمانِ والمكانِ، لصالحِ شاعريةِ اللغةِ في سردِها لأحداثٍ معلومةِ المكانِ ضمناً، متعاقبةِ الأحداثِ واقعياً، كما هو الحالُ في قصتِهِ الأولى "درجٌ خلفي" وكذلك قصةِ "حقٌّ وحق".

 

ولكنّ الأهمَّ في هذه المجموعةِ من وجهةِ نظري، لم يكن في هذا التحررْ، وإنما في مجازفتِهِ اللعبَ على فكرةِ المفارقةْ، تلك التي تعدُّ إحدى أدواتِ قصيدةِ النثرِ، فضلاً عن كونِها إحدى أهمِ سماتِ القصةِ القصيرةِ جداً، وقصص ناجي في هذه المجموعةِ ليستْ من هذا الفصيلْ.. والمفارقةُ في لغةِ ناجي جاءتْ في أكثرِ من قصةٍ بصحبةِ، تكنيكِ المونولوجِ الداخليِّ الذي يجذبُ القارئَ في متوالياتٍ سرديةٍ بعضُها ساخرٌ، وبعضُها الآخرُ عنيفٌ إلى حدِ جلدِ الذاتْ، وهذا سنجدُهُ أولاً في قصةِ "نثارُ الأوركيد" وقصةِ "ذلك الولد"، هذا الولدُ الغائبُ الحاضرُ ها هنا في هذا المكانِ وهو يخدعُنا بلغتِهِ الطازجةِ والناقدةِ معاً في هذه القصةِ، لنعتقدَ للوهلةِ الأولى أنه يتحدثُ عن شغبٍ آخرَ نكتشفُ في نهايتِها، أي القصةْ، أن هذا الآخرَ المشاغبَ الناقدَ مرةً والحانقَ مراتٍ، هو نفسُهُ الكاتبْ.

 

هذا الإيقاعُ القلقُ حيناً، والغاضبُ أحياناً، دفعَ الكاتبَ للاعترافِ بالقولْ: "كثيرٌ من عشاقِ الأرضِ تفرقُهمُ الحروبُ، أما عشاقُ بلادي فتفرقهمُ الحروبُ والاتفاقياتُ على السواءْ، " ومثلُ هذا الاعترافِ يعني أن صوتَ المثقفِ الكاتبِ تمكنَ باقتدارٍ واضحٍ وجليٍ من تخطي صوتِ الدبلوماسيِ الكاتبِ في هذه المجموعةْ، وكأني به يتبعُ قولَ "جبران خليل جبران ": لا تخترْ نصفَ حلْ، ولا تقفْ في منتصفِ الحقيقةْ".

 

وهذا التتبعُ نجدُهُ بحضورٍ كاملِ الدسمِ سواءً في قصتِهِ "تفاوض" التي انتقدَ فيها بشكلٍ مباشرٍ وضعَنا السياسيَ الفلسطينيْ، أو قصةِ "جواز سفر" التي طالَ نقدُه فيها بعضَ الأشقاءِ العربْ، وأظنُّهُ كان يتحدثُ عن بلدٍ بعينِها، وإن لم يذكرْها صراحةً.

 

قبلَ الختامْ، نعمْ لغةُ ناجي، هي لغةٌ حميمةٌ تقتربُ من القارئِ إلى حدِ التماهي، تمتازُ بالرشاقةِ والجمالِ في آنْ، إلا أن هذهِ المجموعةَ قد يؤخذُ عليها، مأخذُ الاستفاضةِ غيرِ المبررةِ في بعضِ القصصْ، والتي كان يمكن للكاتبِ من وجهةِ نظري، أن يختزلَها بعضَ الشيءْ.

 

أنوّهُ إلى هذه الاستفاضةِ رغمَ أن مثلَ هذه الملاحظةِ قد تكونُ بحاجةٍ لمنْ هو أكثرُ مني علماً في فقهِ النقدْ، حيثُ توجدُ صيغٌ تطرحُ مناهجَ مختلفةً لقراءةِ النصوصِ الأدبيةِ على مستوياتٍ عدة، تزامنية لربما أو تعاقبية.

 

أما قصةُ "ترنيمة إلى الضفة الأخرى" وهي عنوانُ المجموعةْ، ولكوني حاولت قدرَ إمكاني "دراسةَ هذه الكلمةَ المكتوبةَ مسبقاً قبل أن آتي إلى هنا وأدعي الفهمْ"، بحسبِ واحدةٍ من دبابيسِ الكاتبِ في هذهِ المجموعةْ، فهي قصةُ الوجعِ الفلسطينيِ بكلِ تفاصيلِهِ الظاهرةِ والباطنةِ.. وهي القصةُ التي أنصتَ فيها الكاتبُ لحكايا الوطنِ والبيارةِ والحصيدةِ، لينسجَ صورةَ قطعةٍ من الفردوسِ.. تماماً كما هي القصةُ التي أطلقَ من خلالِها الكاتبُ الكثيرَ من الصراخِ المؤلمِ الذي يمكنُ أن يعبِّئَ مثلَ هذه القاعةَ بالصمتِ المدوي، خاصةً وهو يحملُ بين طياتِهِ أحلامَ هذا الفتيِ، الطفلِ الفلسطينيِ الكبيرِ الذي هو ليسَ أخي.. وليسَ ابني.. وليسَ حتى من أقربِ أقربائي أو أقصاهُم.. وإنما هو فقطْ.. كاتبُ هذهِ المجموعة، واسمُهُ ناجي الناجي.